شبَّــه اللَّـه سبحانه وتعالى الكلمة الطيّبة بالشجرة الطيبة في قوله تعالى: { ألم ترَ كيف ضرب اللَّه مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها } - ( صدق اللَّه العظيم ) هذه هي الكلمة الطيبة، وهذا هو قدرها وفضلها عند اللَّه تعالى ولكن من الناس مَن يتعمّد هجرها، فيعتاد لسانه على كلام السوء والغيبة والنميمة، فيكون قد أوقع نفسه في حرج بالغ أمام العباد في الدنيا
وأمام ربّ العباد في الآخرة.

وعلى الرغم من ذلك، فإن كثيراً من مجالسنا يكون محور الحديث فيها الغيبة والنميمة، وذِكر الناس بما يكرهون، فإذا كنا نرجو ونحرص على أن تكون أعمالنا مقبولة عند اللَّه عز وجل، فلنحرص على ألاّ تُخدش بغيبة ولا نميمة، ولا تُهدم ولا تُمحى بالاعتداء على حرمات الناس ف
من أخطر آفات اللسان، وأكثرها شيوعاً هما الغيبة والنميمة.


آفات اللسان، ومنها الغيبة، فقد نهى اللَّه تعالى عنها، وشبّه المغتاب بالذي يأكل لحم الآدمي الميت قال تعالى: { ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه } - ( صدق اللَّه العظيم ) - "الحُجرات/12" والنبي ( صلّى اللَّه عليه وسلّم ) قد عرَّف الغيبة فقال: "ذكرك أخاك بما يكره"، فقيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته
وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته".


والحقيقة أن الآيات والأحاديث، التي وردت في التشديد على المغتابين كثيرة وعلى المسلم أن يعلم أن الذي اغتابه سيأخذ من حسناته يوم القيامة، فإن لم يكن لديه حسنات أخذ من سيئات الثاني وطُرحت عليه، ثم طُرح في النار ولنعلم ذلك، أن للمسلم والمسلمة حرمة لا يجوز لأحد انتهاكها وفي الحديث أن النبي ( صلّى اللَّه عليه وسلّم ) قال أثناء طوافه بالكعبة: "ما أشدّ هيبتكِ، وما أشدّ حرمَتكِ، لكن حرمة المسلم عند اللَّه أشد", وهكذا اعتبر الشرع أن حرمة المسلم أشد من حرمة الكعبة، فكيف يتجرأ المسلم أو المسلمة على الكلام عن الناس بما لا يحبُّون؟

الغيبة المباحة

ولكن هناك حالات تُبــاح فيها الغيبة، ذكرها الإمام النووي في كتاب (رياض الصالحين في "باب ما يُباح من الغيبة") جاء فيه: "اعلم أن الغيبة تُباح لغرض صحيح شرعي، لا يمكن الوصول إليه إلاَّ بها، وهو ستة أسباب:

- الأول: التظلُّم، فيجوز للمظلوم أن يتظلَّم إلى السلطان والقاضي، وغيرهما ممَّن له ولاية، أو قدرة على إنصافه من ظالمه فيقول: "ظلمني فلان بكذا".

- الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر، وردّ العاصي إلى الصواب، فيقول لِمَن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يعمل كذا، فازجره عنه، ونحو ذلك، ويكون مقصوده التوصل إلى إزالة المنكر، فإن لم يقصد ذلك كان حراماً.

- الثالث: الاستفتاء، فيقول للمفتي: ظلمني أبي، أو أخي، أو زوجي، أو فلان بكذا، فهل له ذلك؟ وما طريقي في الخلاص منه، وتحصيل حقي، ودفع الظُّلم؟ ونحو ذلك، فهذا جائز للحاجة، ولكن الأحوط والأفضل أن يقول: ما تقول في رجل أو شخص، أو زوج، كان من أمره كذا؟ فإنه يحصل به الغرض من غير تعيين ومع ذلك، فالتعيين جائز، كما سنذكره في حديث هند إنْ شاء اللَّه تعالى.


- الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم، وذلك من وجوه: منها جرح المجروحين من الرواة والشهود، وذلك جائز بإجماع المسلمين، بل واجب للحاجة ومنها المشاورة في مصاهرة إنسان، أو مشاركته، أو إيداعه، أو معاملته، أو غير ذلك، أو مجاورته ويجب على المشاوَر ألاَّ يخفي حاله، بل يذكر المساوئ التي فيه بنية النصيحة ومنها إذا رأى متفقهاً يتردّد إلى مبتدع، أو فاسق يأخذ عنه العلم، وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك، فعليه نصيحته ببيان حاله، بشرط أن يقصد النصيحة، وهذا ممّا يُغلط فيه، وقد يحمل المتكلم بذلك الحسد، ويُلبس الشيطان عليه ذلك، ويُخيل إليه أنه نصيحة فليفطن لذلك ومنها أن يكون له ولاية، لا يقوم بها على وجهها: إما بأن لا يكون صالحاً لها، وإما بأن يكون فاسقاً، ونحو ذلك، فيجب ذكر ذلك، لمن له عليه ولاية عامة ليزيلها، ويولي من يصلح، أو يعلم ذلك منه ليعامله بمقتضى حاله، ولا يغتر به، وأن يسعى إلى أن يحثه على الاستقامة أو يستبدل به.

- الخامس: أن يكون مجاهراً بفسقه أو بدعته كالمجاهر بشرب الخمر، وجباية الأموال ظلماً، وتولي الأمور الباطلة، فيجوز ذكره بما يُجاهر به، ويحرم ذكره بغيره من العيوب، إلا أن يكون لجوازه سبب آخر مما ذكرناه.

- السادس: التعريف، فإذا كان الإنسان معروفاً بلقب، كالأعمش والأعرج، والأصم، والأعمى، والأحول، وغيرهم، جاز تعريفهم بذلك، ويحرم إطلاقه على جهة التنقص ولو أمكن تعريفه بغير ذلك كان أولى.


فهذه ستة أسباب ذكرها العلماء وأكثرها مُجْمَع عليه؛ ودلائلها من الأحاديث الصحيحة مشهورة فمن ذلك، عن عائشة ( رضي اللَّه تعالى عنها )، أنّ رجلاً استأذن على النبي ( صلّى اللَّه عليه وسلَّم ) فقال: "ائذنوا له بئس أخو العشيرة" - ( متفق عليه ) احتج به البخاري في جواز غيبة أهل الفساد وأهل الريب وعنها قالت: "قال رسول اللَّه ( صلّى اللَّه عليه وسلَّم ): "ما أظن فلاناً وفلاناً يعرفان من ديننا شيئاً" - ( رواه لبخاري ) قال الليث بن سعد، أحد رُواة هذا الحديث: هذان الرجلان كانا من المنافقين وعن فاطمة بنت قيس ( رضي اللَّه عنها ) قالت: أتيت النبي ( صلّى اللَّه عليه وسلَّم )، فقلت: إنّ أبا الجهم ومعاوية خطباني؟ فقال رسول اللَّه ( صلّى اللَّه عليه وسلَّم ): "أما معاوية، فصعلوك لا مال له، وأما أبو الجهم، فلا يضع العصا عن عاتقه" - ( متفق عليه ), وفي رواية لمسلم: "وأما أبو الجهم فضرّاب للنساء", وهو تفسير لرواية: "لا يضع العصا عن عاتقه", وقيل: "كثير الأسفار", وعن عائشة ( رضي اللَّه تعالى عنها ) قالت: "قالت هند امرأة أبي سفيان للنبي (صلّى اللَّه عليه وسلَّم): إنّ أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه، وهو لا يعلم؟ قال: "خُذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" - ( متفق عليه ).

كيف يخرج الإنسان من إثم الغيبة ؟

وجواباً عن هذا السؤال يوضّح الشيخ عبدالمنعم فرج، أن العلماء قالوا، في ما يتعلّق بكيفية التوبة والخروج من هذا الذنب؛ إن هذا الأمر ممّا يرتبط بحقوق العباد، والتوبة من حقوق العباد، أن يردها الإنسان إلى أصحابها فإذا كان قد اغتاب أحداً فيطلب منه السماح والاستغفار، إذا كان يظن أن هذا الرجل أو هذه المرأة، عندهما من الإيمان ما يجعلهما يُسامحان ويغفران، أما إذا كان الشخص يظن أنه إذا علم ربما غضب واستشاط غضباً وامتلأ غيظاً، وتضاعف الأمر، ففي هذه الحالة، يكفي أن يستغفر اللَّه سبحانه وتعالى والاستغفار يجبُّ كل شيء، واللَّه سبحانه وتعالى يقول: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللَّه إن اللَّه يغفر الذنوب جميعاً} - (صدق اللَّه العظيم), والشيخ ابن الصلاح في فتاويه يذكر أن الاستفغار هو توبة من كل الذنوب، حتى ما يتعلق بحقوق الآدميين، خصوصاً إذا لم يكن للإنسان استطاعة إلاّ ذلك والعلماء قالوا إن اللَّه عز وجل إذا استغفره العبد وتاب صادقاً، فإنه يسترضي أصحاب الخصومة يوم القيامة ويعوّضهم من رضوانه، ومن الجنة ومن النعم، خصوصاً وأن النصوص قاطعة، في أن التوبة تجبُّ كل شيء، إذا كانت توبة صادقة مستوفية أركانها وشروطها وآدابها, وعلى المسلم أن يتجنب الغيبة ويجتهد في ذلك، لأنه بذلك يوقع نفسه في معصية وإثم كبير.

كيف نرد النمّام ؟

ومن آفــــات اللسان كذلك، النميمة، يقول عز وجل: {ولا تُطع كل حلاَّف مهين همّاز مشاء بنميم} - ( صدق اللّه العظيم ) والنمّام هو الذي ينمِّي الكلام ويزيده على وجه الإفساد واللَّه سبحانه وتعالى قد أمر المسلمين ألاَّ يصدقوا النمّام وأن يردوا كلامه قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } - ( صدق اللَّه العظيم ).

ومقاومة النمّام تكون أولاً، بأن ينهاه سامعه عن النميمة، وأن يبغض عمله، وألاَّ يظن بأخيه الغائب ظن السوء، وبألاَّ يتجسس على الكلام الذي نُقل إليه، ولا يحكي لأحد ما نُقل إليه حتى لا يكون هو نفسه نمّاماً.